الزمن فى الفكر العلمى المعاصر

الزمن فى الفكر العلمى المعاصر
الزمن فى الفكر العلمى المعاصر
الزمن فى الفكر العلمى المعاصر
أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبوالخير
أولا: تساؤلات
إهتم الفلاسفة قديما وحديثا، وكذلك علماء الفيزياء المعاصرون بقضايا الزمن كثيرا، فأثاروا على مر التاريخ عدة تساؤلات جوهرية منها: ما هو الزمن ومن أين أتى ؟ وهل للزمن بداية ونهاية أم أنه يبلى ليولد من جديد؟ ما العلاقة بين الزمان وبين المكان؟ وهل هما متصلان أم منفصلان؟ وهل للزمن معنى فى غياب المكان أو للمكان فى غياب الزمن ؟ هل هو مطلق أم نسبي ؟ ما صلته بالحركة؟ ما تأثير سرعة الضوء على الزمن ؟ هل الزمن يسير فى خط مستقيم من الماضى الى المستقبل فى اتجاه واحد أم أنه من الممكن أن يعكس اتجاهه نحوالماضي؟ هل الماضي والحاضر والمستقبل حقيقة أم وهم؟ هل من الممكن للماضى والحاضر والمستقبل أن يتجلى للمشاهد فى الآن نفسه؟ وكيف يحدث ذلك؟ هل يتمدد الزمن وينكمش ويتسارع ويتباطأ وينحنى أو يتشوه؟ ما الزمن الأزل والزمن الأبد وما الخلود ؟ مالفرق بين الزمن واللحظة والبرهة والوقت؟ هل يمكن للإنسان من عبور الزمن خارج حدود الزمان والمكان المألوفين؟ والسفر إلى المستقبل أو الى الماضي؟. (إرجع لمقالة كيب ثورن هل يجوز السّفر عبر الزمن؟،أو إلى كتاب ديفيز "كيف تبنى آلة زمن"). كيف يمكن رصد الزمن وقياسه ونمذجته؟

ثانيا: بداية الزمن وماهيته
بيت القصيد هنا كيف بدء الزمن؟ ومتى بدء؟ وما هو الزمن ؟ والإجابة على ماهية الزمن يعد لغزًا محيرا وأزمة علمية تبحث إلى يوم الناس هذا عن حل ثوري فاعل. فالغالبية الساحقة من جهابذة علماء العصر يعتقدون أن الكون بدأ قبل 14 مليارعام تقريبا بانفجار عظيم ىسمى(البنج بانج) ثم تمدد، واتسع، وتوسع معه الزمن، وأصبح نتيجة لذلك لكل منظومة كونية حركية زمنها الخاص بها. ولكن العلماء إلى اليوم لا يعرفون ما إذا كان الانفجار العظيم هو الأصل الأقصى للزمن، أو إذا ما كان هناك زمن قبل ذلك بسبب سيطرة مبدأ عدم اليقين الكونى القابع عند الجزء الذى يساوى ( 1*10-35) من الثانية الأولى بعد الإنفجار. ويختلف تأويل هذه القضية عند المستويات الذّريّة وما تحت الذّريّة حيث تعتبرنظرية ميكانيكا الكم الزمن بعدا مطلقا تسقطه من معادلاتها لانعدام وجودٌه فى تلك المستويات . ولهذا فالزمن فى تلك النظريةُ يستبدل بعلاقات تبادلية بين حجم الكون وقيمة حقل مادي ما، فكما يتطور الكون مع مرور الزمن ويكبر، فإن قيمة هذا الحقل تتغير وتتطور هى الأخرى مما يهيء فرصا تطبيقية أمثل لميكانيكا الكم فى مثل هذه الحالات. وعلى أية حال، فالزمن ببساطة يعرف بأنه مقياس لحركة سلسلة أحداث منفصلة تتوالى فى العالم المادى المألوف فى اتجاه مجازي واحد من الماضي نحو المستقبل. وتوظف عادة لوصف سلسلة تلك الأحداث، والتنبؤ بطبيعة مسارها عدد من الأساليب الرياضية والإحصائية كالسلاسل الزمنية ، والتحليل الطيفي والهارموني ، والإرتباط الزاحف، والنمذجة العددية ، والمحاكاة الحاسوبية، والنمذجة التفاضلية والتكاملية. ويعد نيوتن الزمن بعدا مطلقا منفصلا عن المكان ويتمثل فى هيئته نفسها فى كل الاحوال، ولكل المراقبين، ويتحرك بالمعدل نفسه بشكل مضطرد دونما علاقةٍ له بأيّ شيءٍ خارجيّ. وقد حطّمت النسبية الخاصة التى صاغ إنشتاين نظريتها عام 1905 فكرة الزمن النيوتونى المطلق من جذورها، فأثبتت أن الزمن نسبى غير ثابت، ويتقدم بسرعات مختلفة نتيجة لاختلاف حركة المكان أو الأجرام فى الفضاء. كما اثبتت تلك النظرية استحالة استحواذ المنظومة الكونية على زمن واحد، بل أشارت إلى أن لكل نظام حركى فيها زمنه الخاص به. فالزمن عند إنشتاين إذن ليس موجة تتدفق ،كما هو الحال عند نيوتن، بل هو لقطات منفصلة متتابعة من المشاهدات أو اللحظات الواحدة تلو الأخرى لحظة بعد لحظة. هذا يعنى أنه بإمكاننا، بناء على ذلك، مشاهدة ماحدث أو ما سيحدث فى كل لحظة من دوران الأرض حول نفسها، و حول الشمس، و الشمس حول المجرة، و المجرة حول مركز المجرات، والمجرات حول مركز الكون وهلم جر. تلك هى نسبية إنشتاين التى تعنى باختصار أن تصورنا للأشياء والأحداث يختلف من مراقب لآخر، فلو افترضنا مثلا تعيين مراقبين اثنين أحدهما ثابت والآخر متحرك المرجع لرصد حدث كونى ما، فإن كل واحد منهما يرصد الحدث نفسه فى الزمان والمكان بطريقة مختلفة زمكانيا عن الآخر. كما تعتبر النسبية الزمن والفضاء كيانان ليّنان مرنان لاينفصمان عن بعضهما البته. فالزمن إذن فى النسبية بعد هام فى المعادلة الكونية، فهوالبعد الرابع للأبعاد المكانية الثلاث: الطول، والعرض، والإرتفاع. ونظرا لأن المكان والزمان ولاينفصلان عن بعضهما البتة، عبر إنشتاين فى النسبية عن هذه الرابطة بمصطلح جديد أسماه "الزمكنة". إضافة إلى ذلك، إعتبرت النظرية سرعة الضوء القيمة االمطلقة، أى غير النسبية، والثابتة الوحيدة فى الكون التى لاتتأثر بأى شىء من خارجها فى الفضاء. كما أثبتت أن الأشياء التى تقترب سرعتها من سرعة الضوء تتقلص أطوالها ، ويتباطأ زمنها، وتتعاظم كتلها. فإذا ما استطاعت تلك الأشياء إفتراضا تجاوز حاجز سرعة الضوء ،وهو أمر يستحيل البتة حدوثه، تتستيع تلك الأشياء أن تسترجع ماضيها السحيق الذى أندثر فى غياهب الدهور وتلاشى فى حقب الأزمان. فالفضاء إذن مقدار حركى متغير يتوسّع ويتقلّص وتتباين أزمانه منذ بدأ الزمن الكونى بالإنفجار العظيم قبل 13.8مليار سنة حيث أخذت المسافات تتسع بعد ذلك بين المجرّات بفعل الطاقة المظلمة بمعامل يساوي 1000مرة ، ونما قطر الكون بمعامل يزيد عن 100000مرة تقريباً. هذا يعنى أن الزمن يتمدد، ويتسع تبعا لتمدد الفضاء، ويتباين مقداره من جرم كوني لآخر (جدول 1) ، مما ترتب على ذلك أزمان كونية ينعدم التواقت بين الأشياء أو بين الأجرام السماوية ضمن مدى يتراوح من جزء من ملايين الأجزاء من الثانية الى مليارات السنوات. ويعبر عن المسافات بين الأجرام السماوية بوساطة الوحدة الفلكية، أو سرعة الضوء، أو البارسك التي تعادل ثلاث سنوات ضوئية تقريبا.

 
جدول: 1
فالتواقت بسرعة الضوء مثلا بين فرد يتموضع على بعد متر واحد من شخص آخر فى الأرض هو1/ 300000000م/ثانية، وعلى بعد خمسة عشر مترهو 15/300000000م/ثانية. ولأن الرسائل العصبية البشرية تعمل فسيولوجيا فى حدود فاصل زمني يقدر بالميكروثانية (10-6) يكون من غير الممكن للعقل البشرى إدراك تلك المفارقة الزمنية. ولو استطاع العقل البشرى تجاوزفاصل الميكروثانية الى فواصل زمنية أخرى كالنانوثانية ( 10-9)، والبيكوثانية (10-12) ، والفيمتوثانية ( 10-15) ،والأوتو ثانية (10-18)، والزبتوثانية (10-21)، فالكرونن (10-24)، لتمكن من تمييز لحظات زمن الرؤيا للأشياء حسب بعدها المسافى عنه. وبالمقابل تتجسد هذه الظاهرة بسكل أكثر وضوحا على المستوى الكوني، فالتواقت بين الأرض والشمس مثلا ثمان دقائق فى اتجاه واحد ، وتسع سنوات ذهابا وأيابا بين الأرض ونجم الفاقنطورس، وخمسة ملايين سنة ذهابا وإيابا بين الأرض والمرأة المسلسلة، وهلم جرا الى مليارات السنوات بين الأرض والنجوم الواقعة فى أطراف الكون. وتلعب الجاذبية دورا هاما فى هذا التواقت والتزمين، فقد أوضحت النسبية العامة التي نشر إنشتاين نظريتها عام 1915م، أن الجاذبية تؤثر هى الأخرى أيضا فى المكان تمددا وانكماشا من ناحية، وتبطئ الزمن من ناحية أخرى. فالنّجوم الضخمة والمجمعات النجمية العملاقة الفائقة الجاذبية تحني المكان، وتجذب الأجرام التي تمر بجوارها فتتقلص أزمنتها وتتشوه بفهل ذلك الإنحناء. فالزمن بسبب الثقالة يبطئ الزمن قليلاً جدا فى عالمنا الأرضي بشكل قد لا يمكن قياسه فى الحياة اليومية ، فالزمن فى ردهة برج الفيصلية مثلا يكون أبطأ من نظيره على سطح ذلك البرج ، وقس على ذلك فوارق الزمن بين أسفل المنازل وأسطحها، وأدنى جزء من ناطحة سحاب ما وأعلاها. لكن هذا الأمر، أى صعوبة قياس تباين الزمن فى ظواهر محدودة الإرتفاع نسبيا على الأرض كالمنازل، والجبال، والهضاب، والوديان ونحوها، يختلف بشكل ملحوظ على المستوى الكونى، فالساعة مثلا على سطح نجم عملاق فائق البعد عن الأرض تدقّ نحو70٪ من معدل دقات ساعة نظيرة لها على الأرض، أى أن الساعة التى فى الأرض تدق اسرع بكثير من تلك التى على ذلك النجم. أما على سطح الثقب الأسود فيكون الانحناء للزمن أقصاه، حيث يتوقف الزّمن هناك ويبقى ثابتا بالنسبة لزمننا على سطح الارض. ولهذا خلص أينشتاين إلى استنتاجٍ مثيرٍ للاهتمام يؤكد فيه أنّ الفصل، نتيجة لنسبية الزمن، بين الماضي والحاضر والمستقبل وهم من أوهام الذهن البشري يستحيل حدوثه بهذا الشكل الشمولي. فما هو حاضر لفرد ما هو ماض لآخر، وأن حاضر ذلك الفرد ربما يكون مستقبلا لفرد غيره. ونتيجة لذلك، يعد الزمن كتلة كونية واحدة غير قابلة للتجزئة، فالفرد الذى تجتمع لديه تلك الفواصل الزمنية فى اللحظة نفسها يستطيع أن يرى الحاضر، والمستقبل، والماضي معا فى الآن نفسه. فعلى سبيل المثال، الفرد على كوكب الأرض يرى، مثلا، حاضره، كما يرى فى اللحظة نفسها ماضي النجوم ومستقبلها مع كل ومضة ضوء ترصدها مقلته لتلك النجوم من على سطح الأرض. وفى المقابل يعد الفرد الذى على كوكبٍ آخر مستقبلا بالنسبة للفرد الذى على الأرض، أي أن هذا الفرد سيرى هذا النظير الأرضى فى قادم الأزمان لاحقا. وبما أن الماضى شعاع يتجه من حدث، أو نجم، أو كوكب ونحوه مثلا، الى المشاهد، فكذلك المستقبل شعاع ينطلق من المشاهد الى الحدث. أما الحاضر فهو برهة هاربة متفلتة جدا غير مقيسة لا تمثل سوى نقطة على مسار الزمن تسمى "الآن"، وهذه النقطة تعبربالطبع عن جميع الأحداث التى تسجل فى اللحظة نفسها فى أماكن متفرقة من الكون. فالماضى ولى واندثر، والمستقبل غيب أو عدم لم يأتى بعد، والحاضر لحظة تدوم لأقل من المايكروثانية (10-6) ، أى أي مايعادل مقدار زمن الرسالة الفسيوعصبية كما مر بنا سابقا ، ثم سرعان ما تغادرنا تلك اللحظة إلى غير رجعة على عجل لتلحق بزميلاتها من اللحظات التى ضاعت من قبل فى غياهب الماضى وتلاشت. ونتيجة لذلك لابد أن نتصور الأحداث كوقائع موجودة على شريحة واحدة من الزمن تسمى "الشريحة الآنية". ففى هذه الشريحة، على سبيل المثال، من يحاضر مثلى الآن فى موضع ما من العالم، وفى اللحظة نفسها ينفجرهناك نجم فى الكون السحيق، ويضرب نيزك سطح القمر البديع، ويستمتع أناس بزواج عزيز، وفى اللحظة نفسها يودعون عزيز. فالزمان إذن يقطع الى شرائح آنية مختلفة الزوايا نتيجة لتأثير الحركة على تدفق الزمن تماما كما يقطع رغيف الخبز الى شرائح متعددة. فإذا كانت هذه الأبعاد: الماضى، والحاضر، والمستقبل توهمنا بوجودها فى الحياة اليومية، فإن الأمر ، حسب نظرية الكم، يختلف على مستوى الجسيمات الذرية وما تحت الذرية الدقيقة. فهناك كائنات فى ذلك المستوى لا يسمح عمرها القصير بقياس ماضيها،وحاضرها ناهيك عن قياس مستقبلها أو الإحساس به. فالكوارك الثقيل مثلا يعيش عمرا يقدر بالبيكوثانية التى تعادل مقدارا يساوى عشرة مرفوعة لأس سالب أثنى عشرة جزءا من الثانية، أو ما يعادل جزءا واحدا من تريليون جزءا من الثانية أو مليون مليون جزءا من الثانية. والضوء الذى يلف الأرض نحو تسع مرات فى الثانية يقطع البروتون(مقاس واحد فيمتو متر) فى زمن يقاس بالأوكتوثانية، أى فى زمن مقداره واحد جزء من تريليون تريليون جزء من الثانية، فأين الماضى والحاضر، وأين المستقبل فى هذه المفارقة الزمنية الفائقة الصغر؟ . كما يقطع الضوء طول بلانك فى زمن الكرونن أى فى مدة تساوى مائة مليون تريليون تريليون تريليون جزء من الثانية، فأين الماضى والحاضر والمستقبل فى هذا الفاصل البالغ فى الدقة؟. ويحتاج الألكترون لكى يكمل دورة واحدة حول نواة الذرة أربع وعشرين أوكتوثانية، أى أنه يتم نحو اربعين الف ملياردورة حول النوة خلال ثانية واحدة، فأي ماضى وحاضر ومستقبل هذا الجسيم العجيب؟.كما تمكن العلماء من خلال التجارب والمحاكاة استثارة الالكترون فى الهيليوم ورصده فى مدة تعادل جزءا واحدا من بليون تريليون جزء من الثانية، فأين الحاضر هنا ناهيك عن الماضى العدم، والمستقبل الغيبى؟. لقد أضحى اليوم من الممكن آنيا التحكم فى المادة فى أصغر حدودها الأساسية زمنيا ضمن مقياس الفيمتوثانية الذى يعادل جزءا من ألف من مليون مليون جزء من الثانية (1×10- 15) وحيز يقاس بالنانومتر يساوى جزء من الف مليون جزء من المتر (1×10-9). ونتيجة لذلك يكون بالإمكان وفقا لهذه النجزات البشرية المدهشة والمثيرة للإعجاب رؤية نبضات الذرات التى تمثل جزءا من مليارات أجزاء الدقيقة الواحدة الأولى من عمر الكون من ناحية، و دراسة المادة على مستوى النانومتر وتمييز هياكل الذرات، وتشكيل أنواع جديدة من المادة من ناحية أخرى. كما تساعد التجارب التى تجرى على المادة عند مستوى الفيمتوثانية العلماء من إكمال تفاعلات كيميائية ما كان من الممكن أن تستكمل خارج هذا المستوى الزمنى المتناهى فى الصغر والدقة. و يساعد هذا المنجز البشىري الميكروسكوبى الفائق الدقة أيضا على تطوير العمليات الجراحية للعين،والمخ،والأعصاب باستخدام الليزرعند مستوى يسافر خلاله الضوء مسافة تعادل 3, مايكرومتر أوأقل، أي ما يعادل قطر الفيروس تقريبا، مما يفتح آفاقا هائلة للتعامل مع الفيروسات والبكتيريا والتحكم فى درجة تأثيرها على الإنسان، والحيوان، وتقليص حجم الإصابات الفيروسية والأمراض المهاجرة او المستوطنة المعدية القاتلة، فأين الماضى والحاضر والمستقبل الذى ألفناه أليس يعد عدما فى تلك المستويات ماتحت الذرية؟ الجواب بلى. إن التفكير في الماضي، والحاضر، والمستقبل يسبب أزمة كؤؤد تكمن فى تساؤل يبحث عن إجابة مقنعة عن طبيعة مسار الزمن الذى من المحتمل أن يعكس إتجاهه الأحادى ، ويتراجع عكس المألوف. وقد قدم كاتبُ الخيالِ العلميّ فيليب ك. ديك في إحدى رواياته مفهوما تخيلا عن هذه القضية مفاده أن الزمن يمكن أن يتراجع، وأن تراجعه للخلف سوف يجعل الناس الأكبر يبدون أصغر سنا، كما أنهم سوف ينسون كل ما تعلموه من قبل، وتدريجيًا يصبحون شبابًا ثم أطفالًا رضعا، فأجنة فى بطون أمهاتهم ليختفون نهائيا فيما بعد. ويعد علماء تاريخ الكون الذى بدأ مع الانفجار الكبير منذ أكثر من 13 مليار سنة، وأخذ في التمدد باستمرار منذ ذلك الحين، يعدونه من أكثر الأمثلة واقعية لقضية اتجاه الزمن. فعندما ننظر في ذلك التاريخ الذي يتضمن تاريخنا نحن أيضا، يبدو الاتجاه الذي يشير إليه سهم الزمن واضحا هو الإتجاه من الماضى عبر الحاضر الى المستقبل. لكن المعضلة هي أن قوانين الفيزياء تؤكد بأننا إذا كنا نستطيع تحريك جسمٍ في اتجاهٍ واحد بتعريضه لقوّة ما، فحينئذٍ،وفقا لقانون نيوتن الثّاني للحركة، سوف يكون بوسعنا أيضا أن نجعله يعود أدراجه بتعريضه لنفس القوّة في الاتجاه المعاكس إلى الخلف، لأن كلا الاتجاهين ممكن الحدوث نظريا على حدٍّ سواء. ولكن من الجدير ذكره هنا أنَّ الزمن فى قوانين الفيزياء غير عكوسي، أي أنَّ الزمن يسير في اتجاه واحد للأمام فقط. ويعود السبب فى ذلك إلى قانون الإنتروبي الذى يعيق تراجع الزمن الى الخلف نتيجة لازدياد الفوضى فى الأشياء، وتفاقم عشوائيتها. ولتوضيح فكرة الإنتروبي، نفترض أن كمية منتظمة من الغاز وضعت فى ركن من صندوق زجاجي مغلق. فبمرورالوقت يبدأ الغاز، بطبيعة الحال، في الانتشار في جميع اتجاهات الصندوق، وتأخذ جزيئاته بالتحرك بشكل عشوائي . وكلما تقدم الزمن تزداد العشوائية، أى تزداد انتروبيا جزيئات الغازمما يستحيل عند هذه المرحلة ترتيب جزيئات الغاز عكوسيا، وإعادتها الى سيرتها الأولى. وكما يحدث للغاز فى ذلك الصندوق يحدث تماما للكون الذى يتطور باستمرار أيضا ، وتزداد معدلات الإنتروبي فيه ، أى تزداد عشوائيتة، فيقل إنتظام الزمن، ويتفاقم فساده مما يستعصى تراجعه الذاتى إلا بقوة ماورائية حسب قانون العطالة تطوى الزمن عكوسيا. ولأبى العلاء المعرى وصف بديع رائع لذلك الفساد الكونى فيقول:
واللبيبُ اللبيـبُ مَن ليـس * يغتـرُّ بكوْنٍ مصيرُه للفساد

فسادٌ وكونٌ حادثان كلاهما * شهيدٌ بأن الخلقَ صُنْعُ حكيم
وقال أيضا

يحطِّمنا ريبُ الزمان كأننا * زجاجٌ ولكن لا يُعاد لنا سَـبْك
ومن الجدير بالذكرأن الزمن ينقسم الى عدة أنماط هى: الزمن الموضوعى وهو زمن الساعات ،والزمن الذاتي النفسي أو الإفتراضى ، وزمن الأحلام، وزمن الشهوات. والزمن الكونى. ويحوى القرآن أمثلة عديدة لأنماط الزمان كزمن البعث بعد الموت أو الرقاد،وزمن التدبير، وزمن العروج.وأزمان فلكية وردت بعدة صور وأشكال. كما تضمن القرآن الكريم أزمانا أخرى مثل زمن العرش، وزمن خلق السماوات والأرض، وزمن الآخرة. كما تشير الآيات الى وجود الزمان والمكان قبل نشأة الكون من الرتق. وتشير بعض الآيات إلى مبدأ عكوسية الزمن كما هو الحال فى قصة ابراهيم مع النمرود، واستدعاء إبراهيم الطيور بعد ذبحها وتقطيعها ونشرها عل الجبال ، وقصة موسى مع العصا وعودتها الى سيرتها الأولى، وقصة صاحب الحمار الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه.
ثالثا: نهاية الزمن
السؤالان الهامان اللذان يترددان فى الأطر المرجعية للفكر العلمى المعاصر للزمن هما: هل للزمن نهاية؟ وكيف تكون تلك النهاية؟ . تعتمد إجابة هذين السؤالين على طبيعة التكهنات العلمية للحالة التى ينتهى بها الكون، فتفترض الحالة االأولى استمرار الكون بالتمدد بفعل الطاقة المظلمة إلى أن يصل تمدده الى مرحلة لا يمكن بعدها من التوسع، فيأخذ بالإنفطار والإنشقاق إربا إربا وينتهى اتساقه، وتسوده الفوضى العارمة فينهار الزمن على نفسه. أما الحالة الثانية فتفرض إضمحلال الطاقة المظلمة بشكل كبير، فينطوى الكون على نفسه كطى السجل للكتب ويتراجع عكوسيا الى الحالة التى بدأ بها رتقا أى إلى نقطة التفرد الأولى التى نشأ منها قبل الإنفجار العظيم، وينتهى نتيجة لذلك الزمن المادى أو الموضوعى للكون. وهناك حالة أخرى تثارمن قبل فلاسفة الإلحاد ومفكريه بين الفينة والأخرى مفادها أن الكون يستمر مكتفيا سببيا بالتمدد إلى مالانهاية، وهى حالة بالطبع غير واردة الحدوث لتناقضها مع حقائق الدين الحنيف الذى يؤكد حتمية فناء الكون، ويدحض أزليته وأبديته من ناحية ، ولتعارضها مع قانونى الانتروبيا وانحلال المادة واضمحلالها مع الزمن من ناحية أخرى. ولميكانيكا الكم منظور آخر لنهاية الزمن ينص على أن الفراغ ينتج فى مرحلة متقدمة من عمر الكون جسيمات متناهية في الدقة وعشوائية فى السلوك تتسبب في انفجار جديد ينهي الزمن الكونى الحالى المقيس ليبدأ بعد ذلك خط زمنى جديد.


 

 

التصنيفات